قديما كان اليعربي المكي يفخر بخدمة الحاج ، يقريه ضيفاً ، وقد يسكنه داراً ، أو يلتُّ له سويقاً ، أو يقرّب له ماءً أو زاداً ، ويعدّ ذلك من أكبر الأعمال على وجه الإطلاق : (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله ؟! ) .
لقد استقرّ في الذهنية العامّة بمكة أن هذا العمل شرف دونه كلّ شرف ، ولعل مما ورث الناس من أخلاق النبوة الأولى الكرم الإبراهيمي في قرى الضيفان ، حتى صار هدياً وديناً .
والحقّ أننا أحقّ بهذا من الجاهلية الأولى .. كيف ونحن نؤمن أن الحجاج والعمّار وفد الله ، وضيوف البيت وإكرامهم من الحفاوة والعبادة لمن أضحوا له وأحرموا ولا شك .
لابد أن يستقر في أذهاننا أن الحاج ليس (الدجاجة التي تبيض ذهباً ) كلٌ يريد أن يصيب منها أوفر الحظ وأكبر النصيب من الربح ، غير مبالٍ بالمعاني الكبرى ، والغايات العظمى من الترفق بهذا الضيف والإحسان إليه .
مجرمون أيما إجرام أولئك الذين يتخذون الحاجّ مطية سهلة للإثراء والتكثر من المال ، ومفلسون هم أؤلئك الذين يبيعونه غرفة في فندق لم يعرف من النجوم إلاّ اسمها يحشرونه فيها حشراً مع عدد غير قليل بمبلغٍ من المال وقدره .
أما الذين يقدمون له ردئ الطعام فلا أدري من أي أصناف الوحش هم !!
أي نفس تلك التي تسول لصاحبها أن يتسلط على مال الحاجّ بغير وجه حق ، زجاجة الماء المبرد تباع أحياناً للحاج بضعفي قيمتها !! وهدايا الحجّ بثلاثة أضعاف القيمة ، وسلسلة لا متناهية من الغش التجاري ..ودواليك ..
لا جناح على التجار أن يبتغوا فضلاً من ربهم ، ولا تثريب عليهم أن يبيعوا ويشتروا ، ولكن بالقدر المعقول ، مستحضرين أنهم لا يعاملون ضيوف الدولة أو سياحاً أو تجاراً أو حتى ضيوفاً عاديين ، وإنما يعاملون ضيوف الله .. أيدرون ما الله ؟!
لا أطلب من التجار أن يتصدقوا على الحجاج ، ولا أن يبيعوا برؤس أموالهم ، كلاّ .. كل المطلوب منهم أن يرفقوا في البيع والشراء ، وأن يطلبوا بدلاً من الزيادة في الربح البركة فيه .
ورحم الله امرأً سمحاً إذا باع سمحاً إذا اشترى .. هى دعوة لإحياء تعظيم هذا الوفد في النفوس ، دعوة لأن يكون بيننا ثلّة من الشباب المستنير ، يقومون على خدمة الحجيج في الدلالة والإرشاد ، يقومون بهذا العمل حباً وكرامة ، وشيمة وديانة ، يبذلون النصح والعون ، يسقون العطشى من الحجيج ، ويطعمون الجائع ، ويسعون في حاجة المحتاج ، يساعدونهم في الشراء ، ويعبرون بهم الطريق ، يترجمون لهم إن احتاجوا ، يحملونهم على سياراتهم في التنقل أو يحملون لهم متاعهم ، أصدقاء الحجاج الذين يشيعون روح الابتسامة ، وشعور الإكرام .
فهل من مجيب ؟