بينما رجلٌ يقوم برصّ كتاب سير أعلام النبلاء في مكتبته ، سقط من بين الشخصيات رجل من أهل الرعيل الأول ليعيش بيننا جسداً ، وروحاً غير أرواح أهل العصر .
هكذا عبّر أحدهم ، بهذه الطريقة عن رجل عاش بيننا وفقدناه فجر الجمعه في فاجعة عظمت وكبرت واشتدت .
كان بسيطاً بعمق ، متواضعاً بعظمة ، سخياً في خفاء ، كريماً بجنون ، معطاءً إلى الحد الذي لا يوصف .
كان مدرسة في الأخلاق ، أستاذا في الفلسفة ، بروفسوراً في التعامل ، جامعة في مكارم الأخلاق ..
حسين اسماعيل .. لا يضره أن يكون مغموراً ، لا يعيبه أن الإعلام لا يعرفه وأن الصحافة لم تكتب عنه ، لأن الكرام الكاتبين قطعاً يعرفونه وقد كتبوا عنه ، والله من فوق الجميع يعرفه وحسبه أنّ الله يعرفه .
حسين لم يكن ملكاً ولا أميراً ولا وزيراً ، ومع ذلك فقد ملك القلوب محبةً ، وأمِر إمارة الأخلاق والشمائل بسمته وهديه ودله ، واستوزر العمل الخيري كفالة ورعاية ونفقه .
التجار الذين طارت بهم الركبان ينفقون عن سعة ، ويعطون من فضول الأموال ، وربما كان ما يبهرنا من نفقاتهم ضمن الواجب من زكاة أموالهم ، أما صاحبنا فكان يعطي حتى الاملاق ، وينفق حتى الإغلاق ، ويجود حتى بالنفس والجود بالنفس أقصى غاية الجود
وفي الحديث الأبلغ والأفصح والأصرح : (ربّ درهم سبق ألف درهم ) .
لم يجبن عن النفقة وقد خسر مراراً ، ولم يتوانى عن البذل وقد ذاق مُرّ الفقر ، وقسوة الحاجة .
لو قلت لكم ما مرّ بي أكرم منه لم أكن متزيداً ، عرفت تجاراً عن قرب ، مارست العمل الخيري مع أعظم الأسماء في البلد ولذا فلن أعقد مقارنات بينه وبين أحد ولكن بحق حسين اسماعيل حاتم العصر ، وابن عوف الزمان ، وطلحة الوقت ، -رحمه الله – وصلت نفته الكفار والمسلمين ، وصلت هباته للمشردين من اللاجئين في السودان من أهله وعشيرته ، للمرضى في ارتريا ، للعجزة في مصر ، بل حتى للأغنياء الذين دارت عليهم الدائرة ورمتهم سهام الفقر .. ويل الفقر!! .
طلاب يدرسون على نفقته ، وأرامل لا عائل لهم بعد الله إلا هو ، ومرضى ، و....الخ تطول القائمة وتتكرر القصص وتختلف الشخوص والمبالغ .
أي قلب كان في ثنايا صدرك ياحسين ؟!
أي روح كنت تحمل يا أبا اسماعيل ؟!
تقول زوجه (أم اسماعيل ) – صبّرها الله - : دهس مرة قطة ، فجاء مضطرباً ، وأقبل وأدبر عامّة اليوم ، ولم يقرّ له قرار ولم يهدأ له بال حتى ذهب وذبح ما كتب الله من الرؤوس وفرّق اللحم على المساكين .
أعطى مرّة رجلاً عزيزاً أصابه الذلّ ، رقّ له صاحبنا ، فأعطاه مائة ألف ثم زاده مائة ألف ثم أراد ألاّ يصاب الرجل بانكسار فطلب مني أن أناوله المائة الثالثة وكأنها مني أنا .
كان – رحمه الله – حين يعطي أحداً شيئاً يتوارى منه ويتحاشى أن يلقاه حتى لا يشعر بالمنّة .. الله أي أدب جمّ كنت تتحلى به يا حسين ؟!
أبو اسماعيل لم يكن يعني المال له إلاّ أداة يدخل بها السرور على الناس ، سافر إلى مصر قبل وفاته بستة أشهر ، فكان يعطى البوابين والسائقين والعمّال بالخمسة والعشرة الآلاف من الجنيهات حتى أصبحوا إذا ما دخل أو خرج كادوا يكونون عليه لبداً .
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهمُ *** لطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ
حين مات بكاه حتى الأطفال ، لأنه كان كلما لقيهم مدّ يده لهم ، وأقل ماكان يعطي أطفالنا خمسمائة ريال فمضاعفاتها .. رحمك الله من يفري فريك !!
في أشد حالاته فقراً والدنيا قد اسودت في عينه ذهب يصفق في السوق فعاد بعشرة الآف ريال كانت بالنسبة له يوم ذاك ثروة ، لقيه مكروب ، سأله حسين ما الخطب ؟
قال : عندي كذا وكذا وأحتاج لمبلغ كبير ، قال له وكم المبلغ ؟
قال : عشرة الآف ريال ، أخرجها حسين بدون تردد ليعود خاوي الجيب !!
رحمه الله .. هل نطيق ما كان يزاول ولو يوماً في السنة ؟
حدثني أحدهم يقول ذهب لمستوصف الزقزوق القريب من بيته مرةّ فسمع مصرياً يهاتف زوجته ويشتكي من حاجته لمبلغ ثلاثة آلاف ريال ، فلم يضع السماعة حتى أعطاه حسين المبلغ وانسلّ في خفاء .
كان رحمه الله لا يحضر زواجاً في الأغلب ولا عزاءً وإلاّ وتكفّل بالعشاء ، وكان لا يغيب عن هذه المناسبات إلاّ في حالة واحدة .. تدرون ما هي ؟
إذا لم يكن عنده شئ يعطيه ، عندها يتوارى كأنه مذنب أو مديون !!
القصص تطول ، والمشاهد تتكرر ، القصة واحدة والشخوص تحتلف .. رحمك الله أتعبت من بعدك .