الذين يتلون علينا المواعظ والمحاضرات كُثر ، والذين تدوي خطبهم في أذاننا عددٌ لا يستهان بهم ، لكلٍ دوره ومخرجاته : ( قد علم كلّ أناس مشربهم ) ، لكن الذين يعظوننا بصمت ، ويحدثوننا بلغة الأفعال قبل الأقوال قلةٌ قليلة ، ولعمري لحديثهم أوقع في النفس وأشهى للقلب من عشرات الخطب الرنانة .
حسين إسماعيل ، الذي كتبت عنه بمداد الدمع من أسبوعين أعود لأكتب عنه مرّة أخرى ، أحاول هذه المرة أن أكتب ما كان يخطب عنه في صمت ، أن أترجم ما كان يتحدث عنه بالإيماء والإشارة ، وحسبي أنني أحاول فقد أدرك وقد لا ..
تعلمت منه كثيراً ، وتلقيت عنه كثيراً فكان مما تعلمت ما أكتبه الآن بقلمٍ لم يفق بعد من هول الصدمة ، وتأثير الفاجعه .
- تعلّمت منه : أن العلم ليس حكراً على حملة الشهادات الأكاديمية ، والألقاب العلمية ، علمني الحسين أن الحياة تعرك المرء فتصقل حكمته ، وتنمي فهمه ، وتقوي ذائقته ، لقد كان قليل الكلام لكنه إن تحدث قلت إنه عالم اجتماع ، ومحلل نفسي ، وخريج أعرق جامعة في التجارة والإدارة ، لقد كان رحمه الله يحلّ أعوص المشاكل الخلافية بين التجار بحكمة وروية ، وربما استهان به أحد الأطراف ثم لا يلبث إلاّ أن يسلم له بالحكمة ورجحان العقل .
- تعلمت منه : أن القوة في البساطة ، والصلابة في اللين ، وأن التواضع خُلق العظماء
تواضع تكن كالنجم لاح لناظر *** على صفحات الماء وهو رفيع
ولا تك كالدخان يعلو بنفسه *** إلى طبقات الجو وهو وضيع
وهكذا كان – رحمه الله – بل كان يبغض الرفعة على الخلق ، والكبر على الناس ، تراه إذا ماجئته مُسلِّماً مقبلاً عليك كبيراً كنت أو صغيراً .
إذا اجتمع الإخوان كان أذلهم *** لإخوانه نفسًا أبر وأفضلا
وما الفضل في أن يؤثر المرء نفسه *** ولكن فضل المرء أن يتفضلا
- تعلمت منه : أن الكرم لا علاقة له بكثرة المال ، فالكريم كريم ولومن قلة ، جواد ولو مع فاقة ،( ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة )
تراه خميص البطن والزاد حاضر *** عتيد ويغدو في القميص المقدد
وإن مسه الإقواء والجهد زاده *** سماحًا وإتلافًا لما كان في اليد
يجود ولو لم يجد إلاّ أن يبيع نفسه :
يجود بالنفس إن ضنّ البخيل بها *** والجود بالنفس أقصى غاية الجود
والبخيل بخيل ولو كان مجموعاً له مال قارون ، وثروة بل غيت .
- تعلمت منه : أن الكبار فقط هم الذين تتسع صدورهم للأعذار ، وتترفع عن الأحقاد
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب *** ولا ينال العُلا من طبعه الغضب
وما ذلك إلاّ لأنهم تخلصوا من دائرة الأنا الضيقة .
رأيته يلتمس عذراً لمن سرق ماله وقد استشطتُ أنا غضباً ، فقال لي في سكون عجيب :
لعلّ ولده احتاج علاجاً فأخذ المال لملمة نزلت به ، أو لعل دائنا يطلبه فلم يجد إلا هذا المال فسدّ عن نفسه !!
- تعلمت منه : أن المال بيد الخلق إمّا ربٌ يُعبد ، فتعس العبد عبد الدرهم والدينار ، وإمّا عبدٌ مسخرٌ لرسم البسمة على الشفاه ، وإدخال السعادة على القلوب ، فغبطة وألف غبطة لمن هذا صنيعه ( ورجلٌ آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق )
- تعلمت منه : أن المنافسين على الجنة من أبواب الصلاة والصيام كثير ، وأن المنبرين لقضاء حوائج الخلق قليل قليل ، وكان من أدعية بعض السلف : ( اللهم اجعلني من عبادك القليل ) وهنا تأتي حنكة التاجر الخريت ، حين يشتغل في الأسهم القيادية ، فيما جدواه أعظم وفضله أكبر ، وثوابه أجزل .
- تعلمت منه : أنه بقدر احترامك لذاتك يحترمك الآخرون ، وأنه لا دخل للمال قلة وكثرة في تقدير الذات واحترام النفس .. وكثيراً ما كنت أسمعه يقول لأبنائه : اعتزّ بنفسك ولو كنت عبداً أسوداً ، لا يرفعك إلا معاملتك للخالق واحترامك للخلق ، يا أبنائي لا تستحوا من ضيف حلّ عليكم ليس عندكم ما تضيفونه به إلا الخبز أو ما حضر من طعام البيت فالكرم كرم الوجه الذي تلقاه به ، ونداوة النفس مع بذل المتاح .
كأنه يقول :
أُضاحِكُ ضَيفي قَبلَ إِنزالِ رَحلهُ
وَيُخصِبُ عِندِي وَالزَمانُ جَديبُ
وَما الخِصبُ لِلأَضيافِ أَن تُكثِرَ القِرى
وَلَكِنَّما وَجهُ الكَريمِ خَصيبُ
- تعلمت منه : فن التوكلّ العملي ، وحقيقة اليقين الواقعي ، ومبادئ : ( وفي السماء رزقكم وما توعدون ) ، وأبجديات : ( وما تنفقوا من شئ فهو يخلفه ) ، وتأويل : ( أنا عند ظن عبدي بي ) ، وتفسير : ( ما نقص مالٌ من صدقة ) ألم أقل قبل إنه كان خطيباً في صمت ، واعظاً بالفعل ، معلماً في إيماء .. رحمه الله .