ثلاثة كراسي يُستعاذ بالله منها : كرسي طبيب الأسنان ، وكرسي الاعتراف ، وكرسي الاعدام بالصعق الكهربائي ..
جلست خلال الشهرين الماضيين على كرسي طبيب الأسنان مراراً ، كلما غادرته دعوت الله أن يكون آخر العهد به ، كرسي طبيب الأسنان ترهبه النفوس ، وتوجل منه القلوب ، وقد وجدت رجالاً نخر السوس أضراسهم نخراً ، لا يمنعهم من العلاج إلاّ رهبة الكرسي ، يرون أنّ الصبر على السوس خير من الجلوس ، ترى الرجل القوي الجلد ، مفتول العضلات ، ضخم الجثة والشارب ( يقف الصقر على شاربه كما يقولون ) ومع ذلك يحسب لذلك الكرسي ألف حساب .. وحُقّ له ، حسبك فقط ( إبرة البنج ) التي مجرد النظر إليها عذاب ، فكيف بعملها ؟! انتهاءً بأعمال الهدم والبناء التي تتم على ذلك الكرسي .
كرسي عجيب تملك أن تجلس عليه بإرادتك لكنك لا تملك ما بعد ذلك ، لأنك ستكون مسلوب الإرادة تماماً كالريشة في مهب الريح .
في كل مرة أخرج فيها من عيادة طبيب الأسنان أحدث نفسي : ألم يكن تجشم عناء الفرشة ثلاث مرات في اليوم أهون من جلسة على هذا الكرسي ال...؟!
على طريقة الشيخ الراحل علي الطنطاوي : ما الذي جرّني إلى هذا الحديث ، وإلى هذه المقدمة ( شو كُنّا عم نحكي ؟ ) .. نعم نعم أردت أن أدلف إلى موضوعٍ مهم وهو أنّه ليس في الواقع مهنة دون عند التحقيق .. الناس بطبعهم يحبون الوظائف التي يشعرون معها أن لهذه الوظيفة قيمة اجتماعية ، يأنف الواحد أن يعمل مثلاً نادلاً في مطعم أو مقهى ، أو سائقاً ، أو حارساً .. اكتشفت وأنا على كرسي طبيب الأسنان أنّ المسألة نفسية ليس إلاّ .. ففي الوقت الذي يأنف فيه بعض شبابنا من العمل في مهنة سائق مثلاً ، لا يجد ( الكابتن الطيار ) هذه الأنفة بل على العكس يرى المجتمع أنها من المهن المحترمة التي يحلم بها كثير من شبابنا مع أن الحقيقة أنه تعددت الأسماء والقصد واحد .
وفي الوقت الذي يأنف فيه شبابنا من مهنة النادل ، تجدهم يتسابقون على مهنة المضيف الجوي ، وهل هذه إلاّ تلك إلاّ أن هذه في الأرض وتلك في السماء .. قطعاً أنا هنا أناقش الناحية النفسية لا العائد المادي .
في كرسي طبيب الأسنان اكتشفت أن طبيب الأسنان يقوم بأعمال الحفر والترميم ، القص والنحت ، بل يستخدم الجبس والحديد ، كما لو كان بناءًا أو (معلم جبس) أو حداداً ، يمارس الكي والخياطة ..إذاً ليس في العالم مهنة دنية ، كل المهن تظلّ ذات قيمة دام أن الإنسان بحاجتها .. ما أحوجنا لهذه الثقافة ، وقد كتبت قبلاً : يدٌ حقها التقبيل ، وما أحوجنا إلى تربية الناشئة عليها حتى يُحفظ لكلٍ حقه وكرامته .
بلغني أن عامل النظافة في بعض الدول العربية يُسمى : مهندس البيئة أو كلمة نحوها بما يدلّ على مراعاة النفسيات مع أصحاب المهن التي نحن أحوج إليها قطعاً أو أشد حاجة إليها من كثير من المهن الشرفية ،
والالفاظ تضفي على المعاني معان ، وتعمل عملها :
تقول هذا مُجاج النحل تمدحــــــه *** وإن تشأ قلت ذا قيء الزنابيــر
مدحاً وذماً وما جاوزت وصفهما *** والحق قد يعتريه سوء تعبيـــر
جعلكم الله في عافية من ذلك الكرسي ، وفتح الله لأطباء الأسنان ابواب الرزق .
آميـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــن