أطلّ كعادته حاملاً معه البشائر ، هلّ هلاله على الموعد لم يتقدم ولم يتأخر ،يبدد نوره الديجور ، ويطرد جيوش الظلام ..
جاء وقد فتحت لمجيئه أبواب الجنة ، وأبواب النار غُلّقت ، جاء والملائكة ترفرف بأجنحتها ، وصوتٌ قريبٌ بعيدٌ تسمعه يملأ الأرجاء ، تسمعه بأذن روحك ، وبحاسّة نفسك كأعذب ما يكون الصوت همساً أو حساً أو همهمةً أو وحياً : ياباغي الخير أقبل يا باغي الخير أقبل ..
حطّ رمضان رحله ، وقد استقبل بالحفاوة والتبجيل .. وحين قَدِمَ فقد نفراً وتغيّر عليه آخرون .. سألني عن حسين ، ومحمد ، وفهد ، لم يجدهم .. قلت له إنهم أصبحوا من أهل القبور !!
تغيّر عليه زيد وخالد وعبد العزيز قال لقد تركتهم سوداً شعورهم كيف اشتعلت من بعدي شيباً ؟!
وابنك أنس ألم أتركه غضاً ، ها هو ذا يسابق النمو كيما يضرب كتفه بكتفك !
سألني عن الشارع الذي يؤدي إلى المسجد ما الذي غّيره ؟ عن تلك البناية التى قامت ؟ والبيت القديم على ناصية الطريق أين هو ؟
سألني عن أشياء كثيرة ، تركها ولم يجدها ، أو وجدها على غير ما تركها عليه
أطلّ رمضان إطلالة المستغرب المتعجّب .. يبحث عن مسفر لم يجده .. قلت له حبسته ديونٌ فهو في السجن ، والعم حسن حبسه المرض فهو في المستشفى ، ولؤي مبتعث يتمّ دراسته بالخارج ..
سألني ملياً ما بال الناس واجمين ؟
أجبته : إنّ بهم من الذهول والحيرة ما يحملهم على ما ترى .
قلت له : لقد أتيتنا مرّة ومجاعة تضرب الباكستان ، قال : نعم ، أذكر ذلك .
قلت : وجئت حيناً وقتلٌ في البلقان ، قال نعم أذكر تماماً ، وذكّرته بالعراق وسقوط بغدادها ، قال نعم أذكر ، وهل يُنسى ذلك .
قلت ولكن الداهية الدهياء والمصيبة الكبرى أنك توافينا هذا العام وقد تفرقت جراحاتنا شذر مذر ، واجتمع علينا ما تفرّق على السنين من قبل .. قال وكيف ذلك ؟ قلت له : ها هوالجوع اليوم في الصومال واليمن ، والقتل في ليبيا والشام ، والاضطراب في مصر وتونس ، والفتنة نائمةٌ في البحرين ، والنسيان يلفّ مصير مسلمي ارتريا ، ومقص الجرّاح طالت السودان فقطعت منه جزءاً ، ومزّقت منه بعضاً .. لم يتمالك رمضان نفسه ، وأجهش بالبكاء ، وفسّر الحيرة والذهول .
ثم وثب وثبةً وقال : ها أنذا أحمل معكم وأبلغ بكم ولكم ، لن أطيل المكث ، ثلاثون يوماً أو أقلّ اغتنموا وجودي ، وارفعوا مطالبكم ، واستثمروني ، فلعلي آتي ولا ألقاكم أو آتي ولا أجد بعضكم .. وقد أعذر من أنذر ، ومضى في عمله يحصي صوم الصائمين وقيام القائمين مسلّماً وداعياً ومضى يستحث الخطى ، سريعاً كعادته .